مواجهة «التشیّع اللندنی» والخطوة الأولى المطلوبة!
طرح السیّد علی خامنئی مصطلح التشیّع اللندنی مشیراً إلى خطورة الخطاب الصادر من فضائیّات موصوفة تبثّ من المملکة المتّحدة وتتحرّک على خطّین: الفتنة المذهبیة بین الشیعة والسنّة، إضافة إلى توهین رموز الوعی والعقلانیّة فی الداخل الشیعی.
ومن الواضح أنّ هذا المصطلح قد صیغ بذکاء من أجل عدم استفزاز شرائح موجودة فی قلب المجتمعات الإسلامیة والشیعیة بالخصوص، تتحرّک فی خطابها على الخطّین نفسیْهما المذکوریْن أعلاه، وخطابها یقوم على استثمار الجانب العاطفی والطقوسی المرتبط بمناسبات أهل البیت (ع) ولا سیّما عاشوراء لدى جمهور المسلمین الشیعة، وهذا ما یُفسح فی المجال لمعالجات هادئة أو أقلّ توتّراً – ربّما -.
فی کلّ الأحوال، فمن الجلیّ أنّ خطورة هذا الاتّجاه من التشیّع لا تقتصر على بعض الطقوس الخرافیّة فی إحیاء عاشوراء، بل خطورته الحقیقیّة تکمن فی المنهج الفکری وتأثیراته البعیدة المدى على التشیّع نفسه من جهة، وعلى العلاقات البینیّة بین المسلمین من جهة ثانیة، وانعکاس هذین الأمرین على القضایا والتحدّیات الکبرى التی تواجه المسلمین فی علاقتهم مع القوى المستکبرة فی العالم أو فی الإقلیم. وفی ظنّی أنّه ما لم یتمّ وعی هذا اللون من الخطر فإنّ المعالجات تبقى معالجات سطحیّة وأحیاناً صوتیّة، لتعود عجلة الأمور إلى مسارها المعتاد، والأزمة ذاتها!
وعلى سبیل المثال والإشارة السریعة، فإنّ هذا المنهج - الذی ینطق بنتاجِه إعلامُ «التشیّع اللندنی» - یقوم على سطحیة التفکیر الدینی، وطقسنة التشیّع التی تعنی تفریغه من مضمونه الحضاری العقلانی القادرة على التواصل والعبور إلى الفکر الآخر وإمکانیّة التوصّل من خلال ذلک إلى صوغ أرض مشترکة، ویقوم أیضاً على المنطق التبریری لما هو قائمٌ ویقومُ وسیقومُ لأیّ ظاهرة ینتجها التعصّب ضدّ الآخر المذهبی خصوصاً، أو لأیّ بدعةٍ طقوسیّة یمکن أن تقوم بها أی ذهنیّة مهما کانت ساذجة أو مسیئة، إضافةً إلى الانتقائیّة من روایات التاریخ التی تشتمل على الغثّ والسمین، بغیة تسخیر ذلک لضرب العلاقات الأخویّة بین المسلمین، وتکریس آلیّات الفصل عبر السبّ واللعن والقذف لکثیر من رموز ذلک التاریخ وشخصیّاته. وهذا کلّه لیس عبارة عن مفردات محدودة، وإنّما عبارة عن ذهنیّة وثقافة عابرة للأجیال والمجتمعات.
لن أتناول هنا بعض الآثار التی لها علاقة بمنح ذرائع مجّانیّة للاتّجاهات التکفیریة لتعیث فی الأرض فساداً وتدمیراً وإجراماً؛ لأنّ هذه الاتّجاهات لا تحتاج إلى تبریرات، فهی نشأت على فکرٍ إقصائیّ نهائیّ یقینی لا یتزلزل، وتقوم على منهج انتقائی أیضاً من التاریخ أو من الإعلام أو من الکتب بما یخدم تعزیز النهج الإقصائی والتکفیری؛ ولکنّ المصیبة تکمن فی أنّنا قد لا نلتفت إلى الحاجة القصوى فی سحب الذرائع من أجل محاولة وضع حدّ لامتداد هذا الاتجاه التکفیری فی الأجیال الآتیة؛ أقلّه لنُعذر أمام الله تعالى فی قیامنا بکلّ ما نملک لضرب بعض أدواته التی یسوّق من خلالها للفکر التکفیری جیلًا بعد جیل.
ولأهمیّة هذه النقطة الأخیرة یبدو لزاماً علینا توضیحها باختصار فنقول: إنّ الأجیال تختلف فی أدواتها وتتأثّر بالکثیر من المستجدّات الثقافیة، والتی منها أنّها باتت – بفعل الاتجاه العالمی – أکثر تقبّلاً للاختلاف، وأکثر شعوراً بحضور الحوار کآلیّة من آلیّات العصر الضروریّة، وأکثر انفتاحاً على المنهج العلمی فی مقاربة القضایا المتنوّعة، هذا المنهج الذی یمکن سحبه إلى الاختلاف الدینی والمذهبی دون عناءٍ کبیر قیاساً بزمان المجتمعات المغلقة، ولذلک یبدو أنّ سحب الذرائع یعین على تثبیت هذه المکتسبات الثقافیة واستثمارها فی ترسیخ ذهنیّة مختلفة عن ذهنیّة الماضین فی التعاطی مع قضایا الأمّة وتحدّیاتها.
فی المقابل، فإنّ زیادة إذکاء نار العصبیة المذهبیة بحجّة تسجیل نقاط على الخصم أو شحن العصَب الاجتماعی أو الجهادی، یعطی ذریعة وبیئة مؤاتیة للجیل الأوّل لإعادة قولبة الجیل الثانی فی قالب التعصّب وإلغاء الحوار والتفکیر العلمی الناقد والانفتاح على الآخر... بل ربما تکون هذه النتیجة أخطر؛ لأنّ الأدوات التی لدى الجیل الثانی هی أکثر تطوّراً وفتکاً من تلک التی کانت بید الجیل الأوّل!
مساران داخل التشیّع
إذا بنینا على النقطة السابقة، فإنّ الإشکالیّة التی نواجهها حالیّاً هی فی الزمن المتاح والأدوات الضروریة للمعالجة العلمیة والثقافیة؛ ذلک أنّ کثیراً من الفئات الموجودة على الساحة الشیعیة، والتی تنتمی بشکل وبآخر للاتجاه الواعی والعقلانی، ولدیها قیم ثابتة فی قبول الآخر والانفتاح علیه، ولدیها خبرات متراکمة فی إدارة الاختلاف والحرکة السیاسیة وبناء الدولة وفهم آلیّات الصراع الکبرى الدائرة على المسرح العالمی... هذه الفئات لیس لدیها الوقت ولا الأدوات الکافیة لذلک.
ولتوضیح هذه النقطة نحتاج إلى العودة قلیلاً إلى الوراء، لنلاحظ أنَّ ثمّة مسارین فکریّین کانا یتشکّلان فی المجال الإسلامی الشیعی:
المسار الأوّل: اتّجاه قادته جهات علمائیّة حرکیّة تملک فکراً عقلانیّاً ناقداً، وشجاعة تجدیدیة عالیة، وروحاً وحدویّة متّقدة وراسخة، وتطلّعاً نحو مشروعٍ إسلامیّ حرکی عالمی، قادر على الانخراط بقوّة وفاعلیّة فی النشاط الفکری والحرکی العالمی. نستطیع الإشارة إلى رموز أساسیّین فی هذا الاتّجاه، منهم السیّد محمد باقر الصدر الذی نقل الفقه من فقه الأحکام إلى فقه النظریة المترابطة، وکان یعتبر أنّ ساحته هی العالم کلّه وأطروحاته الکبرى، فکتب فی تأسیس النظریة الإیمانیة فی مقابل الإلحاد الذی کان یسوّقه الاتحاد السوفیاتی آنذاک، وکتب فی النظرة الاقتصادیة فی الإسلام فی مقابل الرأسمالیة والشیوعیة، وکان یکتب فی سنن التاریخ الذی تحکم المجتمعات والحضارات... إضافة إلى انطلاقه بعمل حزبیّ لم یکن ذا سابقة فی المجال الشیعی، ولکنّه عکس انخراط الفکر الإسلامی الحرکی المستند إلى القاعدة الفقهیة فی قلب آلیّات العصر الحدیث.
أُعدم الصدر على ید النظام البعثی العراقی، فی الوقت الذی کان یتمّ فیه اغتیال رموز مشابهة فی الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، کالشیخ مرتضى مطهّری والسیّد محمد حسینی بهشتی اللذین کانا صلة الوصل بین الحوزة والجامعة، وحرکة الثورة وفکر الدولة، وکانا یملکان الأدوات التی تسمح بتواصلهما المباشر مع الفکر الغربی.
بکلمة مختصرةٍ، کان یتمّ اغتیال النُّخب الإسلامیة الفکریّة فی الوقت الذی کان یصعد فیه النموذج الذی یُظهر مکانة التشیّع فی قلب الحرکة الفکریة والسیاسیة العالمیة؛ إذ من نافل القول إنّ أیّ فکرٍ عندما یتهیّأ أن یتبنّاه نموذج سیاسی، کالحزب أو الدولة، فإنّه سیکون أشدّ حضوراً ووضوحاً من بقائه فی ساحة النظریّة المجرّدة.
وواحدٌ ممّن بقی فاعلاً من ذلک الاتّجاه على الساحة الفکریّة کان السیّد محمّد حسین فضل الله، الذی سنأتی على ذکر مساهمته لاحقاً. إلّا أنّ المهمّ فی هذا المجال هو الإشارة إلى ما تلقّاه السید فضل الله من عملیّات اغتیال معنوی، عبر أحکام التکفیر بلغة الرمی بالضلال والمروق من التشیّع وما هو أبعد من ذلک .
المسار الثانی: هذا المسار یغایر فی بنیته الحرکیة المسار الذی اتّخذه «التشیّع اللندنی» الآنف الذکر فی کثیر من نواحی النظریّة، ولکنّه التقى فی المنهج ذاته من الناحیة العملیّة، انطلاقاً من أنّ ذلک المنهج هو الورقة الرابحة فی الحرب التی شُنّت على السیّد فضل الله وأفکاره. إنّه المنهج الذی یعتمد الإثارة العاطفیّة، والانتقائیّة من التاریخ، والعودة إلى الأدبیّات التی تجاوزها المسار الأوّل، والتی تضرّ بوحدة المسلمین وتقویة منعتهم أمام التحدّیات والفتن التی یسعى إلیها الاستکبار العالمی وأدواته.
جعفر محمد حسین فضل الله